هذه القصه ليست من نسج الخيال ....بل هي من صفحات الحياة وسطور الزمن..كتبها (رجل ) سكنت هناك..في اقاصي قلبه الرطيب طفله كالياسمينه..فكتب عنها سطورا طاهرة..نقشها خالدة في اوراق ورديه لتؤمنوا مثلما آمن ..ان لازال للحب عذوبته وصفائه...فقال (الرجل): بدأت قصتي حين ولدت "مها" لعمي الابعد " ابن عم ابي" الذي كان يسكن في مدينة الرياض..بينما نحن نسكن في احدى القرى القريبه منها..تصغرني بست سنوات هي...لم اكن اعرف الكثير عن الاطفال ولااحب مداعبتهم حتى رأيتها كملاك طاهر يتربع على حجر والدتي التي اصطحبتني معها لزيارتهم حين جاؤا لقريتنا لقضاء عطلة العيد..كانت كوردة أزهرتها سحابة ممطرة...حملتها بأذن امها وخرجت بها الى مزرعة المنزل وكانت المرة الاولى التي احمل فيها وردة...في شهرها الثامن ...لاادري كيف استلطفتها ..واستظرفتها..ربما لأن امي لم تنجب سوى ذكور....وحين كنت الاعبها حملتها بسرعة لتطير في السماء..مما جعلها تضحك بشكل هستيري لكنني ولفرط جهلي وقلة خبرتي بالصغار تماديت في رفعها الى الاعلى فأختل توازنها وسقطت من بين يدي .....؟ لم أصدق نفسي حين رأيتها تسقط أرضا ويرتطم رأسها بجذع النخلة الخشن الذي تسبب بجرح جبينها ونزف الدم منه... ورغم خوفي كطفل من العقوبه الا اني لم أهرب ..بل أسرعت بحملها الى والدتها..صرخت بي أمي : ماذا فعلت..؟ والكل يراقبني بنظرات حادة واخذوها مني..أخبرتهم بما حدث ووقفت في انتظار العقوبة ليرتاح ضميري الذي كاد ان يقتلني خوفا وقلقا .. أما أمها ...التي كانت مشهورة بعقلها الراجح..فلم تزد على قولها: هداك الله ياولدي ..ثم انصرفت تغسل دماء الصغيرة.. أقسم انني لم اكن راضيا على تلك العقوبه الباردة في نظري ..تمنيت لوأن احداهن أمسكتني وضربت رأسي تماما كما حصل لمها..لكنني جرجرت أقدامي وتواريت عن الانظار... وفي الغد سمعت والدتي تحادث والدتها بالهاتف أرخيت السمع لأطمئن قلبي ...الذي سكن وهدأ حينما سمعت أمي تقول..الحمدلله...الحمدلله انها بخير... ومرت الايام سريعة وانقضى العيد ورحلت عائلة "مها" الى الرياض وذكرها عالق بذهني.. وقلت لنفسي لابأس ..حب اطفال شيء معروف وشائع...وسينتهي يوما ما..حين تكبر هذه الصغيرة.. في العيد القادم انتظرتها بشوق ورأيتها كالياسمينه على كتف اخيها الذي يكبرني بعام يتجول بها في ارجاء المزرعة..رأيتها تمشي وتضحك..وتتكلم بحروف عذبة..فازدت بهذه الندية تعلقا...وحين بدأت احادث اخاها وأخفي رغبتي الملحه في حملها ..لمحت خلف خصلاتها المتناثرة على ذالك الجبين أثر ندبة العام الماضي ..وعاودني شعور يستقر مؤلما بين أضلاعي أذ كيف اجرح مثل هذا الجبين ..المستقي بالطهارة والجمال.. ومضت بعدها ثلاث سنوات وعائلتها لاتأتي لقريتنا ..فرابطة والدها بالقرية انتهت بعد وفاة والدته رحمها الله....وبلغت انا الثالثه عشر ..ومها في عامها السادس..وكان زواج شقيقي الاكبر ..وعلمت من والدتي انهم مدعون للحفل وسيحضرون من الرياض..لم أصدق أذني..ايعقل....؟ هل سأراها بعد كل هذا الغياب ..والسنين...؟ انتظرت الليلة بفارغ صبري..وكلي امل ..أن اراها واهدىء من وجيب هذا المتخلف بين ضلوعي ...الذي كاد ان يطير شوقا وفرحا...وحانت الليلة...وتسللت الى مكان النساء متظاهرا برغبتي بالحديث الى احدى عماتي..وهناك ارسلت نظري بحثا عنها ..وتركت لقلبي الطريق ليعثر عليها ..فوالله ماأخطأها ..وكيف يخطىء من سكنته ..؟ هاهي ترفل بثوب وردي كتفاح خديها ..وتساقط خصلاتها المترفه بالغرور على كتفيها ..لكن طوق الورد على رأسها سمح لعيني أن تطلع على الندبة الصغيرة ..التي أصبحت بيضاء على حافة جبينها اليمنى.... خفق قلبي بشدة..عضضت على شفتي ..تمنيت لو أقتربت منها أعتذرت اوقلت اي شيء.. لكنني خرجت مشيعا باللوم والتوبيخ من والدتي التي تعتبرني رجلا لا يليق ان يبقى بين النساء... وبقيت تلك الصورة في داخلي فترة ليست بالقصيرة...الوردة الناعمه..بالثوب الوردي..وطوق الازهار اللطيفه يحيط بوجه الحبيب...ولكن الحلم كان أسرع رحيلا ...لقد غادر اهلها من الغد مباشرة بعد انتهاء الحفل... وطالت زيارتهم التاليه لزيارة قريتنا ..فلم يأتوا الابعد خمس سنوات ..... أوصدت الابواب على" مها" ولبست الحجاب لقد انتقلت الى المرحلة المتوسطه ...ورجل مثلي في الثامن عشر لايصح ان ينظر الى مثلها... حينما تخرجت من الثانويه أصررت ان التحق بجامعة الرياض ..ورفضت رفضا قاطعا اكمال تعليمي في معهد القرية ..فطموحي كبير جدا ايضا ..وطموحي يستحق العناء والتضحيات ..طالما ان "مها" جزء من هذا الطموح بقيت طوال دراستي في سكن الجامعه الخاصة وترددت كثير على بيتهم بدعوة من أخيها الذي يشاركني الجامعة بتخصص آخر..أنهيت مشواري هذا بالحصول على الماجستير ..وانتشرت الفرحة حتى دخلت كل بيت في قريتنا وتراقصت الابتسامات زهوا على شفاتة والدي وافتخارا بي..وهمست أمي ..فرحتي الكبرى هي يوم زواجك واشرق بداخلي شعور رائع..بل اروع من الروعةذاتها ..جمعت أصابعي لأحسب كم من السنوات تبلغ "مها" ..؟ كم عمر ياسمينتي الان....؟ وهو شعور بالخيبة لما وجدتها لم تبلغ الثامن عشرة بعد..وانا بالخامس والعشرين..تعثرت كلماتي على لساني وقلت لأمي ..ادعي لي بالخيرة يايمه... ولكن بقي الاصرار ذاته بداخلي..ولو كان...؟ ستنهي مها الثانوية هذا العام سأصارح أمي برغبتي بها ..وان وافق اهلها كان بها..وان لم يوافقوا لصغرها...فلأجلها انتظر العمر كله....وحينا انتهت اختبارات الثانويه العامة ولم تعلن النتائج بعد في الصحف..طلبت من صديق لي ان اعرف نتيجتها قبل النشر..وبالفعل علمت بنجاحها بتقدير أمتياز وبنسبة رائعه جدا..فلم اتمالك نفسي رفعت سماعة الهاتف لأبشر أخاها بذالك..لكن اخبرتني امه انه غير موجود فسلمت عليها وعرفتها بنفسي فرحبت بي ثم زفيت لها خبر نجاح مها وانني علمت به انه هنائني احد الاصدقاء على تفوقها ظنا منه انها اختي ..واردت ان ابشركم وابارك للجميع..كم كانت فرحة امها كبيرة ..وسمعتها تناديها لتزف لها الخبر وهي تغلق السماعة فلم اغلقها لعلي اسمعها صوت الفرح في نبراتها ولكن الانقطاع كان الاقرب لسمعي ..وازدت فرحتي ان ياسمنتي متفوقه وجميلة..كبر الحلم حين قررت مصارحت والدتي برغبتي بالزواج بها وسمعت والدتي تحدث والدي عن ترتيبات سفر للرياض ولوازم لها وللصغار وان اهلي سيكونون ضيوفا اسبوعا كاملا عندي ..وسالت عن سبب الزيارة وليتني لم اسال بل ليت تلك اللحظات لم تمر علي ...انه زواج مها ...من ..؟ ومتى..؟ هذا مااستطعت السؤال عنه والمفاجاة تكاد تقطع انفاسي الجميع لاحظ فجيعتي في عيني استدركت وقلت: معقول..اوصلت الى سن الزواج...؟ مازلت اذكرها صغيرة جدا قالت أمي: الايام تمضي بسرعة ..صحيح هي صغيرة نوع ما ..لكنها عاقله ورزينه..والوقت مناسب..خصوصا وان الرجل كفء ..ياالله ياولدي متى ستفرح قلبي...؟ قلت ولازالت أداري دهشتي ..واكابر على الطعنات المتتاليه التي تكاد تودي بي..: من هو...؟ ابن جيرانهم ..من آل فلان.. وبدات الارض تميد من تحتي ..أنه رفيق اخيها..لكنه لم يكن اقرب مني اليه... ياالهي...كيف للناس ان يعلنوا عن رغباتهم في الوقت المناسب..بينما انا أمسك بحلم صغير صعب الكتمان في صدري سنوات...ياالهي ماذا يريد اهلها من رجل لايربطهم به دم ولاقرابة...؟ اتاه يستحقها ....؟ ايستطيع ان يحبها ويسعدها كما اشعر اني سأفعل ذالك.؟ صحوت من دوامتي على صوت المؤذن , قمت للصلاة واهن القوى ..كسير الخاطر..جريح الفؤاد ..هكذا انا دوما .. الحزن يملأ حياتي ..والخيبة تبدو على ملامحي ..كنت ومازلت ضعيفا عن ابداء رغباتي في الوقت المناسب..فأنا ابن القرية البسيط الذي يحسب للكلمة الف حساب..ويضع قوانين العيب والنقد نصب عينيه.. تم الزواج......ورحلت "مها" عن عالمي ..نعم اصبحت مها ..ولم تعد ياسمينتي...أنها في ذمة رجل آخر ..ولست والله أتمنى لها الا السعادة والهناء, وعرفت كما عرف غيري انها سافرت لللخارج مع زوجها لأكمال دراسته ..فشيعتها بدعواتي..وذات يوم ذهبت بطفلي الذي لم يتجاوز الثالثه من عمره لمدينة الالعاب ..ففوجئت بابن عمي "اخو مها" ومعه طفلان..
اما الطفل فكان شديد الشبه بأبيه, واما الطفلة...والتي عرفت فيما بعد انها برفقة خالها فقد اجابني شيء ما انها هي ....مها الصغيرة..كأن السنوات توقفت تلك اللحظات ومن ثم رجعت للوراء ..
بقيت معه وقتا طويلا واقفين نتبادل الاحاديث والسؤال, ثم ودعني وهو يدعوني واسرتي لزيارتهم لاسيما وان مها عائدة من الخاج قريبا بعد اجازتها ..
ذهب الرجل من امامي وانا لازلت اتأمل جبين طفلة لعلي ارى اثرا للندبة فيه..!