يتبع
القدرة على الانتباه والإدراك والتركيز
إن تعامل الفرد مع بيئته ، يتطلب منه أولاً وبالضرورة أن يتعرف على هذه البيئة ، حتى يتسنى له أن يتكيف معها ، وأن يستغلها الاستغلال المناسب ، وان يحمي نفسه من أخطارها ، وأن يشترك في أوجه نشاطها .
والأساس الأول لهذه المعرفة هو أن ينتبه الفرد إلى كل ما يهمه من هذه البيئة ، وأن يدركه بحواسه ، حتى يستطيع أن يؤثر فيها ، وأن يسيطر عليها بعقله ، وعضلاته ، فالانتباه والإدراك الحسي هما الخطوة الأولى في اتصال الفرد ببيئته ، وتكيفه معها .
والانتباه والإدراك الحسي عمليتان متلازمتان في العادة ، فإذا كان الانتباه هو (تركيز الشعور في شيء ) ، فإن الإدراك هو (معرفة هذا الشيء) ، فالانتباه يسبق الإدراك ويمهد له ، أي : أنه يهيء الفرد للإدراك ، او كأن الانتباه يرتاد ويتحسسن ، والإدراك يكشف ويعرف ، والفرد المستمتع بالصحة النفسية هو الذي يستطيع توجيه الشعور وتركيزه في شيء معين ، استعدادًا لملاحظته او التفكير فيه ، أو أدائه .
قدرة الفرد على أن يُحبْ ويُحب
إن الحب عاطفة سامية من أرقى العواطف البشرية ، وهو يلعب دورًا هامًا في حياة الإنسان ، فهو أساس تكوين الأسرة ، ورعاية الأبناء ، وهو أساس التآلف بين الناس ، وتكوين العلاقات الإنسانية الحميمة ، وهو الرباط الوثيق الذي يربط الإنسان بخالقه سبحانته . ويجعله يخلص في عبادته ، وفي اتباع منهجه .
ويتفق علماء النفس على أن حب الإنسان للناس نابع من حبه لنفسه ، وحبه لنفسه نابع من حب الناس له ، فالعلاقة بين حب النفس وحب الناس علاقة تأثير متبادل .
والحب المتبادل يشبع حاجات نفسية ، واجتماعية ، وجسدية ، لكل من المحب والمحبوب ، ولقد ذهب علماء المناعة النفسية إلى أن مشاعر المودة والمحبة تنشط أجهزة المناعة النفسية والجسدية وتنمي القدرة على مواجهة الأزمات ، ومقاومة الأمراض ، إن حب الناس يجعل افنسان يعيش في انسجام مع الآخرين ، مع التوازن التام بين حب الفرد لنفسه وحبه للناس ، والقرآن الكريم يطلب من المؤمنين جميعًا أن يعتصموا بحبل المولى سبحانه وتعالى ولا يتفرقوا .
ولقد أثنى الحق - سبحانه عز وجل - على الأنصار ، الذين أحبوا إخوانهم المهاجرين ، وآثروهم على أنفسهم ، فقال : ( والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شُح نفسه فأولئك هم المفلحون ) (الحشر : 9) .
فالمسلمون إخوة يسيرون لتحقيق هدف واحد في هذه الحياة ، ولا يمكن أن يتم هذا إلا بالحب الكامل ، والمصطفى صلوات الله وسلامه عليه يقول : [ والذي نفسي بيده : لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم .. أفشوا السلام بينكم ] (رواه مسلم) . ولا بد أن يسبق حب الله تبارك وتعالى وحب رسوله صلوات الله وسلامه عليه حب كل شيء ، وهذا ما يوضحه القرآن الكريم ، في قول المولى تبارك وتعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارةً تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) (التوبة : 24) .
الاستمتاع بالحياة
إن الحياة عبارة عن مجموعة من المتناقضات ، وعلى الإنسان أن يعايشها بمتناقضاتها ، بل وعليه أن يستمتع بها .
ولا شك في أن قدرة الفرد على أن يحيا حياة يشعر فيها بالرضا والارتياح تتوقف إلى حد كبير على مدى ما يتمتع به من صحة نفسية سليمة ، بحيث لا يصبح من المغالات أن يقال : إن من يتمتع بصحة نفسية سليمة هو من يستطيع أن يحيا هذه الحياة مستمتعًا بها ، راضيًا عنها ، متقبلاً لها ، قادرًا على تشكيلها وفق إرادته ، بحيث يصير هو صانعها وليس أسيرًا لها .
ولقد دعا القرآن الكريم إلى تنظيم الدوافع الموجودة لدى الإنسان ، وتوجيهها التوجيه الصحيح ، حتى يستطيع الإنسان أن يتمتع بحياته تمتعًا سليم ، يقول الحق تبارك وتعالى : ( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيبًا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين ، إنما يأمركم بالسوء والفحجشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) (البقرة : 168 و 169) .
ويقول سبحانه وتعالى : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ، قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقومٍ يعلمون ) (الأعراف : 31 و 32) . إن الاستمتاع بصحة نفسية طيبة ، وما يتبع ذلك من استمتاع بالحياة يتوقف إلى حد كبير على عدد من العوامل التي تؤثر على نشاط الفرد ، سواء ارتبطت هذه العوامل بماضي الفرد ، أو حاضره ، أو ما يتوقعه في مستقبله ، وسواء ارتبطت هذه العوامل بالفرد نفسه ن أو بالحياة التي يعيشها ، فإن تلك العوامل جميعها تحدد نوع النشاط الذي يقوم به الفرد ، وكل ذلك يؤثر في استجابة الفرد لما تأتي به الحياة .
وبعد
فإن معظم الجهود المبذولة في سبيل تحقيق الصحة النفسية للأفراد في البلدان التي تهتم بالصحة النفسية له طابع وقائي ، فالاهتمام يتركز في الأسلوب الذي يتبع لتحقيق الصحة النفسية للفرد ، والحياة التي يجب أن يعيشها ، والظروف المناسبة التي تحيطه بها ، بغية تحقيق أمنه ، وطمأنينته النفسية .
والجهد الوقائي لتحقيق الصحة النفسية مسؤولية جماعية ، فهو مسؤولية الأسرة في المقام الأول ، ثم مسؤولية المدرسة ، ثم مسؤولية المجتمع ، ثم مسؤولية منشآت العمل ، ومسؤولية المنظمات الاجتماعية ، وعملية التكيف والتوافق السوي تعتبر محور وأساس الصحة النفسية ، وعملية التوافق تتمثل في سعي الفرد الدائم للملاءمة والمواءمة بين مطالبه وظروفه ، ومطالب وظروف البيئة المحيطة به ، فكثيرًا ما يوجد الفرد في ظروف أو في بيئة لا تشبع كل حاجاته ومتطلباته .
كما أن هذه الظروف وهذه البيئة قد تعوق إشباع الفرد لحاجاته النفسية والاجتماعية ، ومثل هذه الأوضاع تفرض على الفرد بذلك الجهد المستمر ، والمثابرة في وجه الصعوبات التي تواجهه في حياته سعيًا وراء حلها ، وهذه تعتبر صورة من سلوك الفرد السوي ، للوصول إلى التكيف والتوافق ، وإلى حياة سعيدة طبيعية